سوط نِتفليكس المؤلم

تقريباً لا يكاد يخلو برنامج حواري في رمضان من هذا السؤال الذي يوجه لضيوف تلك البرامج ، (مامدى رضاك عن الدراما المقدمة في شهر رمضان هذا ؟) ، اما الاجوبة فأستطيع القول اني بلغت مرحلة استطيع فيها ان أتنبأ بالجواب قبل ان يُدلي به الضيف !. وعلى الرغم من انني اتفق مع تلك الاجوبة ، الا انني سئمت من كوني اراها مُتحفظه او لم تُصيب المحز الحقيقي للقضية ، والدليل على ذلك تكرار تلك الاجوبة مع اختلاف صياغتها من ضيف الى ضيف وتطورها من سنة الى سنة ، استطيع القول انها تتمحور حول ،اللوم على ضعف الإنتاج الدرامي ، شح الممثلين المحليين ، افتقارنا للكُتاب السعوديين ! ، ومن قبيل تلك الاجوبة التي في كل مره تحاول ان تجد شمّاعه تُعلق عليها خلل الانتاج الفني الدرامي .
اعتقد ان السنوات الثلاث او الاربعة الماضية كانت نقطة تحول دراماتيكي في ذائقة المُتلقي السعودي ، والسبب في ذلك يعود لنِتفليكس الى جانب اسباب أخرى بطبيعة الحال ولكن في تقديري ان نِتفليكس سبباً مهما ، اعتقد ان نِتفليكس احد اهم العوامل اللتي ساهمت في نقل المُتلقي السعودي من أُفق الى أُفق آخر تماماً، للدرجة التي لم يعد فيها صُناع الفنون قادرين على مُجاراة هذا التحول ! ويعتريهم خوف من ان يصبحوا في الماضي .
إن الآفاق التي يأخذنا اليها نِتفليكس لا تنحصر فقط في رفع الذائقة البصرية لدينا من الناحية الاخراجية او التصويرية ، بالنظر الى الافاق الأخرى يُعد هذا الأمر شيء لايُلتفت له !.
ان نِتفليكس يأخذنا الى عوالم ابعد من هذا بكثير ، الى تلك العوالم التي تلتقي فيه الافكار المعاصرة بالرؤى والتنبؤات المُستقبلية دون تحيز او تميير أفكار على أخرى ، يطرح نِتفليكس في أعماله حاضر ومستقبل ما يُتدوال في العوالم الفنية والفلسفية والأخلاقية والعلمية وعوالم الجدل والدين والوجود ، ويتطرق لقضايا اجتماعية ونفسية ، نِتفليكس اشبه ان يكون مكتبة بصرية تضم الآف الكتب البصرية و المُصنفة تصنيفاً يثير العجب والدهشة .

ان كنت عاشقاً للفلسفة سوف تجد ما يُثير شغفك من افلام وثائقية تتطرق لقضايا الميتافيزيقا و الانطولوجيا و الابستمولوجيا ، وان كنت تُحب الفنون ستجد في نِتفليكس ما يُغرق حواسك من سلاسل وثائقية تستعرض الفنون المُعاصرة و سير فنانين و مبدعين لهم تأثير على الحركات الفنية ، وان كنت تهوى علوم الجرائم والتحقيقات ستجد العشرات من الافلام التي تتحدث وتنبش وتبحث في اعماق نفسيات وعقول اشهر المجرمين و المُعتلين نفسياً وعقلياً ، ستجد مايثير الشك والريبة في سلاسل وثائقية عن الاديان ، والقضايا الوجودية ، ستجد المُتعة في الكوميديا الساخرة المُتهكمة التي ترتقي لمقولة فولتير "من الصعب أن تضحك العقل" وليس الكوميديا التهريجيه التي نشاهدها في أغلب انتاجنا الدرامي و التي لاتخرج عن نطاق (الذبات والإستهبال) ، ستجد في حوارات المسلسلات والافلام أفكاراً عن كل شيء تقريباً ! نعم كُل شيء كل شيء ، وفي مقابل هذا كله ستجد في نِتفليكس ايضاً ما يُلهيك ويقطع عليك الوقت من سخافة ورقاعة.
اعتقد ان نِسب الطرح الفني عندنا تحتاج الى اعادة صياغة ، ليس من المنطقي ولا الصحي ان تكون النسبة الاغلب لما مايعرض من نتاج فني درامي هو للقضايا الاجتماعية ! والباقي بين قضايا رومانسية مبتذلة لا تخرج عن نطاق فتاة من عائلة ثرية تهيم في حب شاب فقير او العكس ، وعن قضايا عائلة ثرية تملك شركة كبيرة فيدخل على حياة هذه العائلة شخص فيلعب في حسبتهم لعب ويستولي على الشركه ! ، وعن اكشن وجريمة لا تعرف اين الحس المنطقي فيها ! فترغم على ان تصدق ما لا يُصدق (تبي ولا مت !!) (المخرج عاوز كده) .
ان المتلقي السعودي لايريد ان يشاهد قضايا إجتماعية ، كفاية ، ارحمونا يرحم والدينكم !.
في تقديري ان مشكلة تردي الدراما بالاخص والفنون بشكل عام ليس في شُح الكُتاب او الفنانين والممثلين فقط ، مع ايماني التام بان لدينا كوادر كثيرة لديها الشغف ولديها الهمة في ان تبتكر وان تخوض غمار اي شيء جديد ، ولا اعتقد انني هنا شاعري او مُتحيز ، ولكن لقناعتي التامة ان من يُشاهد نِتفليكس بعين ناقدة وبتفكير نقدي ، يلزم من هذا ان يكون اهم مصدر للتعلم الذاتي ومن اهم الدوافع التي تحث كل مُريد لخوض إنتاج شيء جديد ومختلف عن السابق والسائد .
يبقى الدور في تقديري انه علينا جميعاً ان نتخفف كثيراً من اللبس والخلط بين الوقائع ! ، وان نعطي لأنفسنا تلك المساحة و الفاصلة والوعي القادر على التفرقة بين ما يُنتج في نطاق الفن وبين الواقع الحقيقي الذي نعيشه ، لانني اعتقد ان هذه اول الخطوات اذا كنا نُريد ان نرتقي بالفن عموماً وبالدراما على وجه الخصوص ومن ثم الى عالم السينما والذي يعتبر اكثر تعقيداً وحرية من الدراما وبقية الفنون ! بهذا نكون قد خدمنا تطور الفن وتقدمه اعظم خدمة ، وبهذا نكون خففنا على كل من يريد ان يبتكر وينتج شيئاً جديداً وطأة التقييد والتربيط والترهيب ، ونمكنه هذا التصرف ان يخرج من شرنقته دون ان يشعر بالحرج !.
علينا ان نستوعب ان عالم الدراما والسينما والفن عالم يُبنى على المُبالغات الإخراجية والإضافات الدرامية القابلة للتصديق ، لذلك علينا ان نتلقى هذا الطرح على انه منظور من عدة مناظير كثيرة، بعضها واقعي وبعضها لايمت للواقع بصلة ، بعضها حقيقي وبعضها مُبهَّر لغرض المُتعة الفنية والدرامية، رغم حقيقة وجود طرح مستند على والى وقائع حقيقية ، الا ان العامل الدرامي مهم ولا يمكن ان نحاكمه ونطابقه على الواقع المعيش ! والا سوف نراوح في مكاننا وسنكون مقيدين ، بين رغبة ورهبة ورقابة !
علينا ان نتعامل مع النتاج الفني والدرامي على انه واقع موازي ! بالوانه وافكاره وطرحه وشخصياته وتضميناته ورمزياته ! يؤخذ بذاته دون ربطه في واقعنا ، وان نتعامل معه كموضوع قائم بحياله .
إن كان لفقر الدراما السعودية سبب فهو لانها تسبح في عالم آخر غير العالم الذي نعيشه وخصوصاً عوالم فئة الشباب من لديهم الذهنية المُتقدة !
اعتقد ان نِتفليكس هذا الوقت من أقوى ادوات تغيير وتوجييه الفكر ، تأثير نِتفلكس يذكرني بحقبة دخول الانترنت الى السعودية ، وتلك المخاوف التي كانت ترافق المجتمع من هذه التقنية ، ما ان دخلت الى مجتمعنا فمالذي سوف يحدث ؟ ، وجميعنا نعلم حقيقة اضافة هذه التقنية لنا ! .
كما ان السؤال عن نِتفليكس لم يُطرح ! ، لذا سوف أسأل هذا السؤال بنفسي .
ما القيمة الذي سوف يضيفها نِتفليكس لنا ؟ وماذا اضاف لنا أصلاً !
اعتقد ان تراثنا السعودي خصب الاحداث والوقائع من جميع النواحي ، التاريخية والفلسفية والنفسية والتراثية ، والادبية والجغرافية تمكننا من خوض تجارب فنية ودرامية أعمق .
اريد ان اشاهد مسلسلاً او فلما عن المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله ، يُصاغ بطريقة درامية وإخراجية يدخل في صياغتها الحس الابداعي والفانتازيا ويلامس الجوانب العميقة في هذه الشخصية من عبقرية وحكمة وشجاعة ، نعم نعم اريد ان اشاهده بهذا الاسلوب لما لا !؟ ، ان جاز لغيرنا ان يصوروا قادتهم درامياً واكشنياً وفنتازياً فلما لايجوز لنا !
عدد الافلام التي تطرقت لسيرة حياة الرئيس الامريكي ابراهام لينكون تجاوزت ال ٢٠ فيلما تتنوع بين درامي وخيالي واكشن ووثائقي خلال تاريخ السينما الاميريكية.
أريد ان اشاهد مسلسلاً يحكي مايدور خلف مكاتب التحقيقات وحل الجرائم والالغاز بنمط سعودي يحكي عبقرية ضباطنا وموظفين مكاتب التحقيقات !.
اريد ان اشاهد فيلماً حربي درامي اكشن عن شخصية خيالية إبان حرب الخليج وتحرير الكويت تسلط الضوء على التراجيديا الذاتية في تلك الشخصية من صعود وأفول وتناقضات ذاتية واسالة مطروحه وقرارات حتمية شجاعه ورهبة ، خوف وقلق !.
هذا النوع من الاعمال الذي ليس من الضروري ان يمت للواقع بصله في ادواته الفنية ! سواء كان هذا الانتاج الدرامي مستوحى من حقائق واقعية او لا ! ، اعمال تجعلني اشاهدها كعالم موازي يفصلني تماماً عن عالمي الحقيقي الذي اعيش فيه خلال فترة المُشاهدة ، دون اي حريجة ودون اي دافع يحثني على ان احمل العمل وجميع طاقمه من كتاب وفنيين وممثلين اي اتهام يوصمهم بعدم المصداقية والموضوعية والتشكيك في نواياهم وغرضهم من هذا العمل ! .
وأخيراً لابد ان تؤخذ هذه المهمة على عاتق الفنانين ، لانريد حلطمة اكثر ! ، نريد انتاج فني درامي فلسفي عميق ، ومبهر اخراجياً و تصويرياً .
لا نريد لأعمالنا كلها ان تحوم حول الحب المبتذل والقضايا الاجتماعية اللي صدعنا منها !
كونوا بخير
عامر